اقتصاد

أزمة السكن العالمية.. كيف يؤثر ارتفاع الأسعار على الاستقرار الاقتصادي؟

لم تعد أزمة القدرة على تحمل تكاليف السكن مرتبطة بالمدن الكبرى في الولايات المتحدة فحسب، بل أصبحت ظاهرة عالمية تؤثر بعمق على أوروبا وكندا وأستراليا ومناطق أخرى حول العالم.

بحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، تؤدي زيادة الإيجارات وأسعار المنازل، بالتزامن مع جمود نمو الأجور ونقص البناء الجديد، إلى تدهور مستويات المعيشة، وتعميق الفجوة الاقتصادية، وإثارة الاضطرابات السياسية.

في أيرلندا، تبدو المشكلة أكثر حدة. فقد ارتفعت نسبة البالغين الأيرلنديين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عاماً، ويعيشون مع والديهم من 38% في عام 2012 إلى 59% في عام 2022، وهو أكبر ارتفاع بين الدول الأوروبية الكبرى، وفقاً لتقرير بتكليف من الحكومة.

خلل العرض والطلب

تعود أزمة السكن إلى عقود من نقص البناء، وزيادة الطلب، والعوائق التنظيمية بحسب التقرير. ووفقاً لبيانات «وكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي» (Eurostat)، تُعتبر دبلن المدينة الأكثر تكلفة للسكن في الاتحاد الأوروبي، حيث شهدت الإيجارات تضاعفاً خلال العقد الماضي، وارتفاعاً في أسعار المنازل المتوسطة بنسبة 75%.

كما لعبت الأزمة المالية العالمية عام 2008 دوراً كبيراً في تشكيل تحديات الإسكان في أيرلندا. ففي سنوات الازدهار، قام المطورون بزيادة العرض في السوق، لكن القطاع انهار خلال الأزمة. وتراجعت معدلات البدء في بناء المساكن بنسبة 83% خلال العقد التالي.

رغم تعافي الاقتصاد الأيرلندي بشكل قوي بفضل الاستثمار الأجنبي والشركات متعددة الجنسيات مثل «أبل» (‏Apple) و«أمازون» (Amazon)، إلا أن تطوير الإسكان تأخر.

في الفترة من 2012 إلى 2018، كانت أيرلندا الأقل في مستوى بناء المنازل بين الدول الغنية، وفقاً لـ«بنك التسويات الدولية» (Bank for International Settlements). واليوم، على الرغم من بعض التقدم، تبدأ الإيجارات في الشقق الجديدة في دبلن من أكثر من 2,500 يورو، أي ما يعادل 2,640 دولار، شهرياً.

أزمة تتجاوز الحدود

تمتد هذه الأزمة إلى ما وراء أيرلندا. في فانكوفر بكولومبيا البريطانية، ارتفعت أسعار المنازل إلى 17 ضعفاً متوسط دخل الأسرة، مدفوعة بتكاليف البناء العالية والنمو السكاني بنسبة 19% خلال العقد الماضي.

في سيدني بأستراليا، ارتفعت أسعار السكن من تسعة أضعاف متوسط الدخل في عام 2019 إلى 12 ضعفاً في عام 2024، مما أجبر المطورين العقاريين على إيقاف المشاريع بسبب التكاليف المرتفعة.

كما شهدت أوروبا الشرقية زيادات ملحوظة. ففي المجر وليتوانيا، ارتفعت الإيجارات بأكثر من 60% بين عامي 2015 و2023، بينما تضاعفت أسعار المنازل.

وسجلت إستونيا أعلى زيادات في الإيجارات وأسعار المنازل في أوروبا، إذ أدى اقتصادها القائم على التكنولوجيا إلى زيادة الطلب في مدن مثل تالين، لكن بناء المنازل لم يواكب ذلك حيث تعرقل اللوائح البيروقراطية جداول البناء.

وفي الولايات المتحدة، أنفق نصف الأسر ما لا يقل عن 30%، من دخلهم على الإيجار والمرافق في عام 2022، وهو رقم قياسي، حسبما ذكر «مركز الدراسات المشتركة للإسكان – جامعة هارفارد».

وعلى الصعيد العالمي، ارتفعت أسعار السكن بنسبة 32% بالقيمة المعدلة للتضخم في العقد الذي سبق عام 2021، وفقاً لصندوق النقد الدولي. ويشير المحللون إلى السياسات التقييدية لاستخدام الأراضي كعامل رئيس. وقال ويندل كوكس، المخطط الحضري السابق في لوس أنجلوس: «عندما تضع حدوداً للأماكن، وتقول إنه لا يمكن التوسع خارجها، فإنك تجبر الأسعار على الارتفاع». 

تزايد الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية

بحسب «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD)، كانت البلدان التي شهدت أكبر ارتفاع في أسعار المساكن في جميع أنحاء العالم خلال الخمسين عاماً حتى عام 2021 هي نيوزيلندا والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا وأيرلندا.

واستعرض تقرير «وول ستريت جورنال» كيف أن أزمة السكن توجد فجوة بين الأجيال، حيث يُضطر الشباب العاملون إلى إنفاق جزء كبير من دخلهم على الإيجار أو العيش مع أسرهم، مما يؤخر تحقيق معالم حياتية مثل تملك المنازل وتأسيس الأسر.

وتتعدى هذه المشكلة إلى العاملين الأساسيين مثل المعلمين والممرضين وضباط الشرطة، الذين يواجهون صعوبة متزايدة في العيش داخل المجتمعات التي يخدمونها بسبب ارتفاع تكاليف السكن. وعلق أحد المعلمين في دبلن قائلاً: «يعكس هذا الكثير عن المجتمع عندما يعجز الأشخاص الذين يحافظون عليه عن العثور على منازل».

كما ترتفع معدلات التشرد في دبلن، حيث تُشير تقارير حكومية إلى الإيجارات المرتفعة ونقص المساكن المدعومة كعوامل رئيسة. وتختفي النوادي الليلية والمراكز الثقافية، بينما أصبحت شوارع المدينة موطناً لعدد متزايد من الأشخاص المشردين، مما يعكس الضغوط الأوسع على الحياة الحضرية.

استجابات سياسية

تسعى الحكومات لمعالجة الأزمة من خلال تدابير تهدف إلى تعزيز البناء وتخفيف الأعباء المالية. فقد زادت أيرلندا الإعانات، وفرضت إعفاءات ضريبية للمشترين، بينما يكثف المطورون جهودهم رغم التكاليف المرتفعة. ومع ذلك، تعيق القوانين الجديدة ونقص العمالة وارتفاع أسعار المواد التقدم.

تتخذ دول أخرى خطوات مماثلة، إذ حظرت كندا المشترين الأجانب، بينما تُراجع كوريا الجنوبية وألمانيا قوانين تقسيم المناطق للسماح بمزيد من التطوير. لكن القوانين المحلية غالباً ما تفضل الملاك الحاليين، مما يُبطئ الإصلاحات الضرورية. وقال كريستيان هيلبر، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد: «بمجرد أن تكون في اقتصاد سياسي حيث يشكل الملاك الأغلبية، يصبح من الصعب إجراء الإصلاحات».

طريق للمضي قدماً 

يحذر الخبراء من أنه دون تغييرات كبيرة، ستستمر أزمة القدرة على تحمل تكاليف السكن في التفاقم، مما يعمق الفجوة الاقتصادية، ويبطئ النمو الاقتصادي.

وتشير بيانات بنك التسويات الدولية إلى أن الدول التي لديها أدنى مستويات بناء المنازل شهدت أعلى زيادات في الأسعار مقارنة بالدخل.

وبحسب التقرير، فإن الأزمة تُعد شخصية للغاية بالنسبة للكثيرين. فالأفراد الذين يواجهون هذه التحديات يتأملون في مدنهم، ويشعرون بأن تلك الأماكن التي كانت تمثل وطنهم لم تعد توفر لهم ظروف الحياة الكريمة، مما يؤكد الحاجة الملحة للتصدي لأزمة السكن العالمية قبل أن تتفاقم أكثر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى